تقرأ في سورة البقرة قولَه تعالى {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون}
وفي نفس السورة يقول الله تعالى {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون}
لاحظ التوافق والاختلاف بين الآيتين، ففي الآية الأولى، يقول الله {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل}، وفي الثانية {ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة}
فيظن البعض أن ذلك الاختلاف والتنوع، ما هو إلا مجردُ تقديم وتأخير، وتفننٍ في الأسلوب، وأن عدم قبول الشفاعة جاء مرة بأسلوب (تنفعها شفاعة) ومرة (يقبل منها شفاعة)، والمعنى واحد.
لكن إذا تأملت الآيتين، ورجعت إلى كتب التفسير، علمت أن الله تعالى يتحدث عن مشهدين مختلفين من مشاهد يوم القيامة.
فالله تعالى يقول {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس} ، وهذا يدل على وجود نفسين، وشخصين، نفسٍ جازية، ونفس مجزي عنها، فالنفسُ المجزي عنها، هي التي وقع عليها العذاب، والنفسُ الجازية هي التي تريد أن تشفع في النفس المجزي عنها لتخلصها من العذاب.
ولنضرب مثلا يقرب المعنى
إذا دخل سعيد السجن بسبب دين عليه
فإن أول ما يفكر فيه سعيد لينقذ نفسه من تلك الورطة، أن يتوسط بدفع مبلغ مالي لينقذ نفسه بنفسه، ومن عادة الإنسان أنه يستنفد ما في وسعه قبل أن يلجأ إلى الناس.
فإن لم يُقبل منه ذلك، تدرج إلى مرحلة أعلى، وهي البحث عمن يشفع له ليخرجه من السجن
فإذا وجد سعيد صديقَه أحمد، شافعا له
وأتى أحمد ليشفع في سعيد، فإن أول ما يبدأ به أحمد أن يتوسط بالشفاعة لإخراج سعيد.
فإذا لم تُقبل شفاعته، لجأ أحمد إلى أسلوب المقايضة، كأنه يقول: كم تأخذوا فداء لتخرجوا سعيد!
ولنعد إلى الآيتين الكريمتين.
فالآيتان تتحدثان عن نفس جازية (شافعة) ونفس مجزي عنها (متورطة)
فالآية الأولى تتحدث عن مشهد النفس الجازية (الشافعة)، يقول الله تعالى {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل}، فالضمير (منها) يعود على النفس الجازية، يعني أن هذه النفس الجازية، إذا جاءت لتدافع عن النفس (المجزي عنها)، فإنها إذا بدأت بالشفاعة، فلن يقبل منها الشفاعة، فإذا انتقلت للمقايضة، فلن يؤخذ منها (العدل) وهو الفداء بالمال ونحوه
بينما تتحدث الآية الثانية عن مشهد النفس المجزي عنها (المتورطة)، يقول الله تعالى {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} ، فالضمير (منها) يعود على النفس المجزي عنها، يعني أن هذه النفس المتورطة، إذا بدأت بالعدل (وهو الفداء) فلن يقبل منها، فإذا انتقلت إلى محاولة إيجاد شافع، فلن تنفعها شفاعة.
وبهذا تعلم السر في أن الشفاعة جاءت في الآية الأولى بقوله (يقبل منها شفاعة)، لأنها تتحدث عن النفس الجازية، فلن يقبل منها، بينما جاءت الشفاعة في الآية الثانية بقول (تنفعها شفاعة)، لأنها تتحدث عن النفس المجزي عنها، فالشفاعة ليست منها، وإنما من غيرها، فبين الله أنه لا تنفعها شفاعة أحد.
والعدل وهو الفداء ، جاء في الآية الأولى بقوله (يؤخذ منها عدل)؛ لأن النفس الجازية تدفع بغرض فداء النفس المتورطة، فبين الله أنه لن يؤخذ منها الفداء، بينما جاء (العدل) في الآية الثانية بقوله (يقبل منها عدل) لأن النفس المتورطة تحاول أن تدفع الفداء لتنقذ نفسها بنفسها، فبين الله أنه لن يقبل منها ذلك