تربطني علاقة غريبة بفنان الشعب زكريا الحجاوي؛ بدأت منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، حيث كان يٌذاع مسلسلاً إذاعياً على موجات إذاعة الشرق الأوسط على ما أذكره بعد موجز السادسة مساءً فكنت ألاحظ حالة صمت غريبة جداً في المنزل؛ وقبلها حرص كبير من أفراد أسرتي على إنجاز أعمالهم قبل هذا التوقيت حتى يكونوا جميعاً متفرغين ساعة إذاعة الحلقة الجديدة من المسلسل , فمن عليه إدخال( الجِمَال ) مكانها يقوم بهذا العمل بسرعة , ومن عليه سِقَاء الأبقار أو الماعز يجتهد في إنجاز هذا الأمر بسرعة ، وتقوم السيدات بحلب الأبقار، كل هذا من أجل مسلسل الحجاوي.
كنت أستمع مع أهلي للمسلسل الإذاعي , الذي ينقلني إلى مشاهد حية متتابعة صاخبة بحس ومعرفة كاملة من زكريا الحجاوي للمجتمع الذي يكتب عنه والذي يكتب إليه , وبعد انتهاء المسلسل نتجمع أطفالاً صغاراً نحكي أحداث المسلسل رغم أننا جميعاً استمعنا لها، وفي نهار اليوم التالي ننظر في وجوه أهل قريتنا نبحث عن التشابه بين بعض شخصيات المسلسل والأشخاص الذين نقابلهم في الحياة .
بعدها بدأت أتقابل مع زكريا الحجاوي الكثير من المرات , في قراءات متنوعة وفي سماعات متعددة ؛ وفي كل مرة كان يطفو على سطح ذاكرتي مسلسله الإذاعي والطقوس التي كانت تلازمه وتليه , حتى وقعت بين يدي أثناء تجوالى بين مكتبات سور الازبكية نسخة قديمة من كتابه (حكاية اليهود) , وبعد قراءته أعدت النظر فيما أعرفه عن الحجاوي...فتحسست مدى جهلي به وبقيمته , وهو ما حرصت فيما بعد- قد يكون هذا تكفيراً عن ذنب- على البحث عن كل ما يخص الحجاوي كتابة وتعليقاً , وكان موضع تساؤلات عديدة مني لأناس رافقوه أو عرفوه , وما زال هذا الحرص يسكنني.
وكان زكريا الحجاوي مُصراً على التواجد معي في بعض الأحداث والوقائع الغريبة التي مررت بها ، فمنذ سنوات عديدة سابقة كنت في دار الهلال , أُشرف على مراجعة البروفات الأخيرة للعدد الأول والأخير من مجلة الفرجة الشعبية , وتلقيت إتصالاً تليفونياً من أحد المعدين الأصدقاء كي أكون ضيفاً على أحد البرامج التليفزيونية , وأذكر أن المذيعة كانت صفاء قطب وكان معها ضيفين من العيار الثقيل , وكان وجودي لإستكمال العدد أو لملء الكراسي أمام المذيعة حسبما توقعا وأرادا , وبدأ الكلام التقليدي عن الحجاوي وفرقته الفنية وعلاقته بخضرة محمد خضر، وحرص أحد الضيوف على التأكيد على وجود مشروع ضخم في المؤسسة التي يتولى إدارتها للتوثيق لتراث الحجاوي وتجربته ومشروعه الإبداعي ، وكان هذا للأسف غير صحيح ولكن ذكره الضيف المسؤول كنوع من الترويج لنفسه ... لعل وعسى !!!....
وجاء دوري في الحوار , فوجدت أنها فرصتي الذهبية للإعتذار للحجاوي عن سنوات من جهلي به وعدم تقديري لقيمته الحقيقية، ورأيت أن ألفت النظر لفترة تاريخية - من وجهة نظري - هي الأخصب والأروع والأكثر إنتاجاً وتأثيراً في مسيرة ثقافة هذا الوطن وهي الفترة المنحصرة بين عشرينيات القرن الماضي وأربعينياته.
وكذلك حرصت على ذكر الحركات الوطنية السياسية مثل حدتو والحزب الشيوعي المصري وطليعة الوفد وغيرها من الحركات السياسية التي إنحازت للناس وحملت آمالهم ففوجئت بمقاطعة غريبة من المسؤول الحكومي ضيف البرنامج محاولاً نفي أي انتساب لزكريا الحجاوي لأي حركة سياسية , وكذلك عدم تأثير هذه الحركات شعبياً (وكان ناقص يقول إن الحزب الوطني الديمقراطي بتوجيهات كريمة من سيادة الرئيس هو صاحب النشاط ساعتها؟!!)
فاضطررت إلى ذكر أنشطة الحجاوي قبل يوليو1952 , ومساهماته الإبداعية والوطنية قبل أن يركز جل جهده في نهاية الخمسينيات في مجال الفنون الشعبية وذكرت أن الكثير من الحركات السياسية ترى في الفنون الشعبية معبراً حقيقياً عن قيم الجماعة الشعبية فنياً وسياسياً وجمالياً واجتماعياً وهو ما وعاه الحجاوي مبكراً قبل السادة حملة الشهادات وأختام الكليات !! لذا جاء تحيزه وتفرده منطقياً مع مسيرته وأفكاره.
الموقف الثالث لزكريا الحجاوي معي عندما كنت أًعد ملفات توثيقية للرواد في مجال الفنون الشعبية دراسة وبحثاً وجمعاً وإبداعاً , وبعد إنهائي لجزء كبير منها، فوجئت بصورة للحجاوي على مكتبي , وسط أحبائه وأعضاء فرقته الفنية، فخجلت من نفسي وبدأت في إعداد ملف توثيقي عنه , معتذراً لصورته السمحة عن تقصيري.