عظة الأب سمعان أبو حيدر في أحد آباء المجمع المسكوني الأوّل
الأحد ١٧ حزيران ٢٠٢٤ - كنيسة الظهور الإلهي - النقاش
الشهادة للمسيح
باسم الآب والابن والروح القدس. آمين.
حظيَت دراسة إحصائية حديثة في الغرب حول الدين بالكثير من الاهتمام لأنّها أظهرَت تضاؤل عدد الناس الذين يُجاهرون بمسيحيّتهم بل يعدّون أنفسهم «لا أدريّين». أحد أهمّ أسباب هذا الانخفاض، أن الكثيرين من بينهم «لم يجدوا شيئًا يستحق العيش والموت من أجله في الكنائس التي عرَفوها».
تعكس تجربتهم تقصير المسيحية في الثقافة المعاصرة عن تجسيد البشارة، التي نحتفل بها بصدق خلال موسم الصعود هذا. نحن مدعوّون لمشاركة شخصيّة بتحقيق إنسانيتنا الحقّ في المخلّص القائم من بين الأموات والصاعد بمجد الى السماوات. في شخص الابن الواحد تتّحد البشرية باللاهوت. هو يصعد إلى السماء كإله-إنسان. يدلّ صعوده على أن الابن مشتركٌ في المجد الذي كان له عند الله مِن قبلِ كونِ العالم.
يقودنا الرب إلى هذا المجد معه. يرفعنا الرب في صعوده بكلّ أبعاد وجودنا، لا من القبر أو من الجحيم فقط، بل، في المسيح الصاعد، نصير حقًا شركاء الطبيعة الإلهية بالنعمة حتّى ونحن نعيش في عالم غالبًا ما ينسى الله الذي أخرجه من العدم إلى الوجود.
يذكّرنا الصعود أن الهدف ليس الهروب من أجسادنا أو من الواقع الأرضي، بل تقديم كل جانب من جوانب حياتنا لبركة المسيح بحيث نختبر الحياة السماوية، حتّى في وسط عالم يبتعد بشكل متزايد عن الله. ويذكّرنا الصعود أيضًا أن يسوع المسيح لم يكن مجرّد معلم عظيم، بل كما أعلن آباء المجمع المسكوني الأول في نيقية، هو نورٌ من نور، إلهٌ حقّ من إله حقّ، من جوهر واحد مع الآب، ابن الله الوحيد. وحده الإله الأزلي الحقيقي يقدر أن يَصعد إلى السماوات ويُدخلنا في الحياة الإلهية الأبدية للثالوث القدّوس. ولهذا السبب رفض مجمع نيقية تعليم آريوس الذي لمْ يعتقد أن الابن هو إله كامل. فقط، الشخص الذي هو إلهٌ تامٌّ وإنسانٌ تامٌّ يمكنه أن يُدخلنا إلى حياة الله.
يبدو أن الكثيرين في ثقافتنا يعتقدون أن الرب ليس أكثر من مجرّد معلم جيّد أو داعية يحمل رسالة اجتماعيّة على غرار شخصيات تاريخيّة ودينية أخرى. لكن نعلم جيدًا أنه يُمكن أن تكون شخصًا لطيفًا ومواطنًا صالحًا دون أن تكون مسيحيًا أو حتّى متدينًا!
على غرار آريوس (الذي أفحمه آباء المجمع الأول)، كثيرون عبر القرون، جعلوا المسيح على «صورتهم» كإنسان مثالي وفقًا لأيّ معيار وجدوه جذابًا في زمانهم ومكانهم، وفي سبيل بعض الأجندات الثقافية أو السياسية…
في المقابل، تحافظ الكنيسة على الإيمان المستقيم بيسوع المسيح الإله-الإنسان. لا نسعى إلى تمييع إيماننا بالمخلّص في محاولة جعله شعبيًا أو سهلًا أو متناغمًا مع العصر. لا يفاجئنا أن الصعود معه إلى حياة القداسة في عالمنا الفاسد يتطلّب انضباطًا وتضحية وإصرارًا… لا يتطلّب الأمر النَّظر بعيدًا من أجل تأكيد هذا بشكل أكثر وضوحًا، ففي عصرنا هذا، يقدِّم العديد من الشهداء المسيحيين هنا في المشرق حياتهم من أجل إيمانهم بالمسيح. هنا وثمّة في أجزاء أخرى من العالم، يعاني إخوة لنا من الاضطهاد والمضايقات والقمع. وحتّى في مجتمعات «ديمقراطية غربيّة»، دساتير وقوانين تدمّر الانتروبولوجيا المسيحيّة تعتدي على الكرامة الإنسانية المخلوقة على صورة الله.
كثيرون اليوم لا يُدركون، أن الشهداء لا يبذلون حياتهم في سبيل أيّ نوع من «المزايا» الدُنيوية. هم ببساطة يرفضون التخلّي عن الرب الصاعد بمجد، الذي يُشرِكُهم في حياة أبيه. نذكر كيف، في غضون أيام، انتقل التلاميذ من اليأس والهزيمة عند صليب المسيح، إلى تفجّر الفرح أمام قبره الفارغ ومنظر صعوده المُبهج.
كتب ترتليانوس أن «دماء الشهداء هي بذار الكنيسة». بطُرق قد تبدو مُفاجئة، هكذا، في تاريخ الإيمان المبكر، انجذب النّاس إلى شهادة الذين ضحّوا بحياتهم من أجل المسيح. شعروا أن أمرًا مختلفًا وشيئًا جديدًا يَستحقّ العيش والموت من أجله، هو حقًا الذي قاد الشهداء إلى تضحياتهم العظيمة. لذلك، بدأوا الاحتفال بالإفخاريستية فوق قبور الشهداء.
في موسم الصعود، يجب أن ندرك أن مجد الرب الإلهي يسطع من شهادة الشهداء حتى يومنا هذا، ويجب علينا أن نُثبِت بطريقة عيش إيماننا، أنه يستحق أن نحيا ونموت من أجله في ظلِّ ثقافةٍ يعبُد فيها الأكثرون ذواتهم وشهواتها.
يدعونا لأن نكون إيقونات حية بطرق تجذب الآخرين إلى فرح الملكوت وبركاته. وأن نُثبت إمكانيّة العيش في هذا العالم كأناس قد اختبروا خلاصه بالفعل. هو يأمرنا أن نشع بالمجد الإلهي الذي جعلنا مشاركين فيه. هكذا نشهد لحقيقة الصعود، فينجذب الكثيرون إلى الرب المخلّص، وبنعمته سوف يعاينون أنه هو الطريق والحق والحياة. آمين.